الخميس، 1 ديسمبر 2016

* دراسة نقدية * سعدي عبد الكريم / كاتب وناقد \ العراق

تماثل أزمنة الحرب، والحب
ومعايير الرؤية الفنية
والخصائص البنائية في القصة القصيرة جداً
مجموعة ( ليلة من زمن الحروب ) لـلقاص راضي المترفي أنموذجا ً
* دراسة نقدية *
سعدي عبد الكريم / كاتب وناقد
تعتبر القصة القصيرة جداً, جنس أدبي جديد من أجناس القص، أو فن السرد، بكونها تتميز بجملة من المعايير الفنية، والخصائص التقنية، والركائز التدوينية، التي تُمَكنها من تحقيق ذاتيتها المحضة، وإبراز معالم كينونتها المستقلة، وترسيخ فضائل حضورها الفاعل، والمتفاعل مع جلّ الملاحق المعرفية، والأدبية، وتعيين ملامحها التوالدية، باعتبارها (ومضة تعبيرية) خاضعة لزمكانية ذات أبعاد محدودة تولد من رحم الدلالات التي تحكمها جملة من مقتضيات اللحظة الانفجارية، لإيقاد أيقوناتها المضيئة لإخصاب محاكاتها للواقع، أو التحليق في عوالم مخيالية خصبة خاضعة لمقتضبات السرد الخاطفة، لبرهان أهدافها في زمن التداول السريع للمنتج الأدبي، بصيغة التفاعل الآني معه، أو الانغماس بمتخيلاتها السريالية للإبحار داخل تلك اللمسات الانتقائية لعملية القص، وهي بالتالي نسق من انساق الدلالة على جملة من المهارات التي يجب ان تتوافر في جسد منتجها التدويني، لما يتطلبه من تقنية لغوية نثرية عالية, وسرعة في السرد, وتكثيف قصي له فاعلية في اختصار الثيمة, وبراعة أعظم في التصوير التأثيثي القصي، ومخيال خصب من طراز نجيب، ومعايير ناهضة للرؤية الفنية، وخصائص محكمة في بنائية مفاصلها، واستثمار جمالية اللقطة الفوتوغرافية الذهنية، لإحالة تلك المهمات والملكات الفنية بجملتها، الى صور مرئية فاعلة في ملاحق التلقي، لإخضاعها الى براهين أدائية ناشطة داخل الملحمة التدوينية الناهضة للقاص .
رغم ان القصة القصيرة جداً, جنس أدبي حقق كينونته المستقلة ورسخ حضوره الفاعل عربياً وعالمياً، وأرسى دعائم ذيوعه وانتشاره سريعاً, لذا أطلق عليه تسمية ( فن المستقبل ) ومن المتعارف عليه عالميا ان الكاتبة والقاصة الفرنسية ( نتالي ساروت ) هي أول من كتب القصة القصيرة جداً عام 1932 م وقد أسمتها حينها بـ(انفعالات), ولكن ( فتحي العشري ) عندما ترجمها أبان بداية سبعينيات القرن المنصرم، أطلق عليها اسم ( قصص قصيرة جداً ) ووفق تلك الترجمة الحرفية للعشري، ذهبت الريادة إلى الكاتبة (نتالي ساروت) .
وفي رأينا النقدي .. أن أول من كتب القصة القصيرة جداً عبر التاريخ الأدبي العالمي هو الكاتب الروائي الكبير ( ارنست همغواي ) عندما كتب قصة من قصصه وأطلق عليها ( قصة قصيرة جداً ) وكان ذلك سنة 1925 ، حيث كتبت قصته المكونة من ست كلمات فقط، والتي نصها :-
(( للبيع ، حذاء لطفل ، لم يُلبس قط )) ...
وهناك تجارب عربية في مجال كتابة القصة القصيرة جداً، وقد لمعت بعض الأسماء التي كتبت في هذا الفن، ففي مصر كتب توفيق الحكيم، ويوسف إدريس، وفي سوريا القاص زكريا تامر، ووليد اخلاصي، وفي لبنان القاص توفيق يوسف عواد، وفي فلسطين محمود شقير، وفي المغرب حسن برطال، وهشام الشاوي، وحين الرجوع الى كتاب القصة القصيرة في العراق، نجد بان ثمة أسماء بارقة اشتغلت في حيز الكتابة لهذا الطراز الفني الباهر، منهم إبراهيم احمد، وخالد حبيب الراوي، وعبد الرحمن الربيعي، واحمد خلف، وحسب الله يحيى، وحنون مجيد، وجاسم عاصي، وحمودي الكناني، وغيرهم .
وتعتمد القصة القصيرة جداً على عنصرين مهمين في تكوينها الجمالي والحسي لاستدراج مخزوناتها الى حيز الإظهار وهما :-
• الحركة الداخلية .. والتي تؤسس لجملة من الموائمات النفسية الذاتية، والثوابت الانفعالية، وهي تجابه الخارج الذي يشكل المورد الأساس لحركة الفعل المؤسس لموضوع القصة نفسها، والوسيلة لمعالجتها .
• الحركة الخارجية .. وتُشكل تقنيات القصة القصيرة جداً وتعتمد على جملة أنساق تبدأ بالمفارقة، وتنتهي بالخاتمة، مروراً بحيثيات بنائيتها .
وتفضي القصة القصيرة جداً على اعتبارها جنس أدبي قائم بذاته، على جملة من الملكات الومضية الخاطفة، وخصائص تعبيرية قادرة على تقديم وجبة أدبية فارقة لذهن المتلقي، لكنها وبذات الوقت تحفل بالكثير من الصعوبات المتكئة على خصوبة المعايير الفنية، والخصائص البنائية الجمالية، داخل مهمة ومقتضيات التناول التدويني، ويقع في صدر تلك المعايير والخصائص، الرؤية الفنية الخلاقة، والمهارة التقنية المبدعة، والفسحة الجمالية في صياغة محورها الواقعي، او المستلهم من مخيال القاص، وتدوينها على ضوء منظومة التكوين الواضحة المعالم، في الاختزال القصي، والاقتصاد اللّغوي، وسرعة الإيقاع، وتكثيف الحدث، والتناظر الملهم بين تعميق الدلائل القصدية، والتشفيرات الاعتباطية، وتوظيف الانزياحات اللغوية توظيفاً ملائماً، والاستلهام على ملازم التناص، والاشتغال على تلك المعايير الفنية ، والخصائص البنائية لتحسين أداء القاص داخل صومعة الخلق الابداعي، لبناء منتج قصي ذو ملامح إبداعية مهيبة، تلمح إلى ما يميز هذا اللون القصصي، للافاضة في الرؤية الفنية، والاعتناء بخصائص بنائيتها الجمالية، من اجل إحالتها الى ذاكرة ( المتلقي ) بعناية ديناميكية ذهنية مشرقة، تقوده إلى آفاق رحبة للقراءة، والاستقراء .
ووفق هذه المقدمة الموجزة .. وعلى ضوء رأينا النقدي .. ونحن نتتبع الخطى التكوينية للقاص العراقي ( راضي المترفي ) وخصائص بنائها الجمالي المغول في جسد مجموعته القصصية الجديدة ( ليلة من زمن الحروب ) نرى بوضوح تلك التراتبية المرتكزة على مناهجية اتصال مكنوناته المعرفية الكبيرة، ومخزون قراءاته المتنوعة العميقة، واجتهاده الناشط في استحضار ملكاته الفنية المبهرة، ورسوخ منظومة فعاليته الإنسانية، عبر ملامح حياتية الاجتماعية، وتأثيرات نشاطاته الإعلامية الغزيرة، وتجاربه الإنسانية العديدة في داخل أزمنة الحروب، وخارجها، وتلك الاتجاهية الادبية، التي تمتلك مقومات ومعايير فنية راقية، ورؤية فنية ذات جرسية ملهمة، ومهارات إبداعية عالية، وحس جمالي غني، يحاول عبره مغازلة شواهده وتجاربه العشقية، وربما يحاكي عبرها فواجعه وآلامه وأحزانه التي كان لها الأثر الكبير في التأثيرات اللاحقة على مجمل تدويناته الأدبية والصحفية المختلفة المخاصب بدءً من العمود الصحفي، ومرورا بالشعر، والقصة، والرواية، وانتهاء بالقصة القصيرة جداً، فهو يعد من الأقلام المهمة في ترصين حركة الإبداع العراقي بجلّ اخصاباته المتجددة الرصينة، وعلامة فارقة في إثراء الحركة الأدبية، والثقافية، والإعلامية في العراق .
يدعونا القاص ( راضي المترفي ) عبر مجموعته القصصية الجديدة ( ليلة من زمن الحروب ) الى الولوج الى مفاتنه السردية، لاكتشاف عوالمه المخيالية السحرية المحاطة بمجموعة من الإشكال المأسوية تارة، وأخرى الى ملازم ذات طابع متخم بالحزن، والأسى، وربما الغبطة التي تنساب بروية خلابة من بين ثنايا ثيماته العشقية المتوالدة من رحم تجاربه المتوافدة من صلب واقعه الإنساني، وتارة ثالثة يأخذنا صوب ذلك الخراب، وتلك الفواجع الكارثية، التي تحدثها الحروب، ونحن مغلفين بهالة من الترقب، واقعين تحت تأثير تلك الهيبة المتواشجة بالترقب والدهشة المبنية على فسحة تلك الفضاءات المنسابة مع أنثيالاته القصية، المتخمة بالا متوقع، وألا تنبيهي، وإحداث المفاجأة التي نسترخي في حضرتها حيناً، وحيناً آخر نبقى متسمرين في مكاننا الذي أوكلنا إليه، ونحن مأخوذين بملاحقة أفكاره، ومتسيدات شخوصه، وهم مرتبطين بذلك الخيط الوهمي الرفيع، الذي يمسك القاص به من طرف، ونحن نمسك بطرفه الآخر، لنظل قابعين داخل ملحمة التلقي، وكل تلك الملاحق التراتبية، التي فرضها علينا (المترفي) في مساراته السردية، ستقودنا لتحرير ذواتنا وبعناية فائقة من لوازم ذكرياتنا المؤلمة، وأحباطاتنا المتوالية في أزمنة الحرب الخرائبية، وأزمنة الحب المعتمة .
إن والأجواء السريالية في قصص ( المترفي ) راحت تخلق لها مظاهرية خاصة، وشكلنة مختلفة، وتقاويم زمكانية خاصة، وشخوص عائمة، ومواعيد سردية متخمة بالألم، والأسى، والغبطة أحيانا، وهي بالتالي تعتمد على السؤال الفلسفي، والسياسي، والاجتماعي، والذاتي المحض، الذي يطرحه علينا، وعلى ذاته الهاربة من فعل تدوين ة القصية الخاطفة الجريئة، ومفاد تساؤله الأزلي (من أنا) (أين أنا) (ماذا افعل) ويطرحه وفق ملامح تنشيطية لذاكرة (المتلقي) في قراءة، واستقراء أنموذجه (القصصي) عبر صياغة دلائلية هاربة من زمن اللحظة، لتجتازها صوب أزمنة قديمة، او جديدة، او ربما أستشرافية قادمة، باعتباره نص قائم بذاته، يشكله القاص وفق معايير رؤيته الفنية والإنسانية للواقع، او الخيال، ليسقطه بالكلية على اللحظة الهاربة من توقيتات الأزمنة، والأمكنة، ليعتني وفق هذه النظرة بمقومات رؤيته الفنية العالية، وحرفيته التقنية الراقية، ومخياله الخصب، لإحداث طفرة نوعية مدبرة بإحكام، ليلزم (دائرة التلقي) بعدم التنصل عن نباهتها التتابعية، ابتداء من التكوين الاستهلالي، ومرورا بالوسط، وانتهاءً بالإقفال، بضرورة تسَّيد البطل لعملية الصراع في نصوصه القصية، والمحافظة على الشخصيات المجاورة وإدامة فاعليتها المساندة في ربط مشغلات (الثيمة) ونمو (الحدث) .
في أول قصص المجموعة الموسومة ( قلادة ) والتي سنأخذها كعينة منتقاة لنستعرض من خلالها جملة من استثمارات القاص في قصصه اللاحقة، فهو في قصته هذه يتعرض لحياة بطلها الذي عانى غربة داخل وطنه، من جراء انتماءه السياسي، حتى حكم عليه بالإعدام وهو خارج وطنه هارباً من جلاديه، تزوج من امرأة أحبها بحجم ما بداخله من الم واسى، لتنجب له بنتا احتفل بها وهو في غربته، وأخمدت نار الشوق لوجه أمه، وملامح وطنه، بعدها تحدث له مشكلة في موطن غربته والتي أدت الى إبعاده من البلد المستوطن فيه، ليهاجر عبر ذات القطار الذي استقله في المشهد الاستهلالي، ويتلقي برجل يطرح عليه فكرة القتال ضد الكفار، في موقف مفعم بالسخرية اللاذعة، والتشظي الواضح بين أفكاره التي يؤمن بها، وبين أراء هذا الرجل الغريب النزعة حيث يسرد لنا القاص :-
* ( وأقنعه بالسفر الى احد ثغور المسلمين ومقاتلة الكفار هناك فوافق رغم ان
مشكلة حياته هي حقده على الكلاشنكوف ورفض العيش بصحبتها ) .
تسبر لنا أغوار القصة حياة البطل عبر مواقف مشدودة بإحكام، ومرسومة بإتقان، وبحواريات مائلة الى الصورة المرئية، وبمعايير فنية راقية، وخصائص ذات رؤية متجددة وعميقة، وفي نهاية القصة يعرض علينا ( المترفي ) أدق موقف يمكن أن يتاخم بطل محبط، ملغوم بالانهزامية، ومتخم بالألم والأسى، والقهر منذ أزمنة بعيدة، وهو يتنقل عبر المنافي، لعيش غربة قاتلة، قبل وبعد احتلال بغداد، يعود الى البلد الذي ابعد عنه للبحث عن زوجته وابنته لكنه عبثا يحاول، ويصور لنا القاص هذا المشهد بجمالية باهرة حيث يقول :-
* ( وصل بلد غربته الأول .. بحث في كل الأماكن فلم يجد أثرا لما جاء من اجله,
شطت به الدروب واستطالت الايام حتى تسرب اليأس الى نفسه فقرر الرحيل
الى مكان مجهول يدفن فيه خيباته وذكرياته ) .
يقفل القاص ثيمة قصته ( القلادة ) بمشهد يعبث فيه حفيده بقلادته ابنته، لتجد صورة أبيها، ثم تنتبه بان الكهل الذي كان يجلس بجانبها هو والدها، ويصور لنا القاص هذا المشهد عبر كاميرا سينمائية، وبعين مخرج حين يقول :-
* ( فعبث الصغير بقلادتها ولما خلصتها من بين انامله الصغيرة نظرت
بالصورة المحفورة فيها فوجدتها تشبه ملامح الكهل الذي كان يجلس قربها
وحياها فصرخت ..بابا .. بابا لكنه عندما التفت وجد ان القطار مرق كالسهم).
هكذا ينهي ( راضي المترفي ) حياة بطله التي طالما كانت أسيرة لجملة من العوامل الخارجية، والعوامل الداخلية، ليُحليها الى مكامن من التشظي بين الوطن والمنافي، وملاحم من الفواجع والماسي والضيم، لأنه يدفع ثمن حرية انتماءاته السياسية، وآرائه الفكرية، وميوله الإبداعية، ومعتقداته الدينية، وثمن حريته، وربما كان الرابح الوحيد في شذرات ( القلادة ) هو القاص، الذي أخذنا في مشاهد ميلودرامية مليئة بالتحريض على التغيير، ومن ثم ليمسك بأيدينا صوب الخلاص لنصرح بصوت عال ٍ اسعوا نحو الحرية لان ( الحرية أثمن ما نملك ) .
لقد اشتغل القاص ( راضي المترفي ) وفق قواعد لغوية سلسلة، وضوابط حسية عالية، ومعايير الرؤية الفنية الخصبة، والخصائص البنائية المحكمة، ذات الأبعاد الجمالية الخلاقة، من اجل خلق ذلك التوازن البديع في إثراء أحداث قصصه القصيرة جداً اللاحقة وبامتياز، وفق ذلك الشغف التدويني الملهم، ويتأتى ذلك عبر استدراج مخزوناته قراءاته الراقية، وتراتبية أفكاره المخالية العالية، ونضوج تجربتة المعرفية الفخمة، وفحولة استثماراته المفرادتية السهلة الممتنعة، وعذوبة سوداويته المشرقة، وانفلات تقويماته الزمنية القصدية، وانفلاتاته المتشظية عبر ازمنة خرائبية اودعت مكامنها في ذات الهاربة صوب الخلاص، واعتدالاته الحياتية المتزنة، وشكلانية فحواه الناجزة، وتتابع ملخصه القصي المحكم، واستخداماته لتجاربه الخاصة المبهمة أحياناً، والواضحة أحياناً أخرى، والناشطة داخل مراحل حياته الحافلة بالمتضادات، وتشظيات لوعاته المفجعة في زمن الحرب، وايقاضاته اللحظية في أيقونات الحب، واشتغالاته النوعية في صياغة الخبر وملاحق ترويجه، ولحظاته القديمة والحديثة المؤلمة، وحساسيته المفرطة، وإيغاله في إشباع تحليل ألغازه المدفونة، وإيجاد الحلول الناجعة لها، ونجاح براهينه الفكرية التي يوقن بها، وتشبيه أبطاله تارة بذاته، وأخرى بمجاليه، وأخرى بمن شاهده من شخوص حوله، والملفت ان شخصيات ( المترفي ) هم أبطال يتمتعون بصفة المواربة وكأنهم عراق الازمنة قد سحقتهم داخل مجتمع ساده العنف، والتطرف، والهمجية، والجهل، وخرائبية الحروب، ليصوغ لنا من كل تلك البواتق ملاحمه الناهضة، عبر مجموعته ( ليلة من زمن الحرب )
لقد اخذ القاص ( راضي المترفي ) على عاتقه، أن يقودنا صوب مصائرنا الحتمية داخل شرائط استقراء نصوصه القصصية الى حيث مراتع تأثيراته الجمعية التي يفضي مؤداها الى استنهاض مفاتن الركود لدينا، وتحطيم مهمات استسلامنا للنتائج السائدة، والحلول المبسطة، والنهايات السعيدة التي تؤمن لنا قدر من الطمأنينة، وهو يسبر أغوار لوا عجنا لينشأ له مملكة وصفية من خلال ثيمات نصوصه القصصية ليدلفنا الى عوالمه المتخمة بالخطايا والخيبات، من خلال كسر الإلهام، وإيغالنا في بواعثه الادهاشية المحسوبة بعناية، وتشذير إيماءاته القصدية، وتعليل تشفيراته الملغمة بالترقب والإيحاء، لكنه بذات اللحظة يمتلك قدرة محكمة، وذكاء مفرط في استثمار تقطيعاته الطبوغرافية، ودقة عباراته الموشومة بالحرفية العالية، لإشباع المعنى المرتكز على تلك القيمة التسارعية الاسترجاعية لشحن ديمومة وحدة الفكرة، ليتماها بأسلوبية الهدف المؤمل عبر إتقان منهجية إلهامه التكويني داخل النص، الذي يعتبره واخزا بالغ الاهمية، لتصحيح مناهج غفلتنا المؤقتة، لإحالتها الى مراتع من الإيقاظ الفوري، لتجديد مهمات التحريض والتغيير في دواخلنا المستسلمة للسبات العميق .
لقد اعتني القاص ( راضي المترفي ) من خلال مجموعته القصصية (ليلة من زمن الحرب ) برصد حالاته الذهنية المتقدة، لبناء عوالمه السرديــة بمساحة معرفية مهمة ومتفردة، من خلال قوام الحدث والزمن القصصي، لتتجلى في ومضته القصية تلك الرؤية المعايرية ، لأنه أجرى عملية تكثيف للثيمة القصصية بأدوات مهارية فنية ولغوية عالية ، وبين التفاصيل الصغيرة التي اتكأ عليها لبيان مدى قدرته على الاشتغال الفني في استثمار خصائص بنائيته متوهجة، رغم الاختلاف الشاسع بين حياته اليومية كانسان، وبين رؤية الفنية التي تمليها عليه أفكاره المحلقة بعيدا في عالمه الخيالي الرحب، مما أدى الى تقارب القنوات الفنية، والتقنية، والاحترافية الإبداعية، ليسحب إليه دائرة الإنصات بروية، وملاحق التلقي باعتناء امثل، من خلال تلك المقاربة الفطنة التي أحدثها في تنوع ( ثيمات ) قصصه، وطرائق وأساليب تدوينها، فقد اهتم اهتماماً بالغاً بالجهد التكثيفي اللغوي، والاختزال في السرد، لكي ينتمي منجزه القصي وبامتياز الى جنس القصة القصيرة جداً، ومن ثم استطاعته الماهرة في التحليق بذات المنجز الى درجة عالية من درجات الإفاقة الإنسانية، للارتقاء بها صوب منافع التحريض، ومن ثم لحقها بركب التغيير، والخلاص .
لقد حاول القاص ( راضي المترفي ) إحداث مماثلة او مقاربة بين حياته اليومية ككاتب مهم على الساحة الأدبية، وباعتباره احد المهمومين الكبار بهموم شعبه، ومحن وطنه، فهو يماثل ذاته كانسان مرهف الحس، يحاول ان يجد له منفذا للخلاص من مأساته وفواجعه التي لحقت به من جراء الحروب، وحبس الأفكار من الخروج لدائرة الضوء، وتسيد الظلم على المجتمع، وهذا كله يشير الى مبعث رغباته القصدية في تدوين نصوصه القصصية عبر ذلك التكثيف الجليّ في اللغة، وأنسابية السرد، وعدم توقع الصدمة، وتغليف مواريث قصصه بتلك الدهشة العالية، لتعميق دلالاته السريالية السحرية الحالمة، فهو ينحاز الى استثمار لغة سلسلة غير مقعرة ومفهومة، لتوصيل تفاصيل حركة ( الميزانسين ) بمنظاره المجهري الذي يرى من خلاله نهائيات أبطاله، وربما ليرى ذاته من خلالهم، ويسعى عبر حواريته المقتضبة الى إحداث ذلك الترقب الاستثنائي من قبل تلك الجمهرة العريضة من قارئيه، لحثهم على إعادة تفكيك نصوصه القصية، واستقبالها بفاعلية متاخمة للنص، لانه يمتلك تلك الخاصية في التأثير على معقولية نصوصه رغم انه قد يغلفها برمزية مشفرة، وغرائبية فاعلة في جسد القصة، لكننا نجدها واضحة في تجلياته النثرية الملغمة بالأحاسيس المفرطة التي يعبر عنها بمواقف إبطاله الصادمة، لينتهي منها وهو مسترخياً، ومطمئناً لتلك الحدود المنضدة بالأسلاك الشائكة، التي أنشأها بعناية، لكي تخترقها معارف المتلقي، وقد نجح أيما نجاح، في مهمته هذه .
نحن نرى ووفق نظرتنا النقدية.. بان ثمة انسجام تدويني تام، وحاضرة ذهنية متقدة، داخل منظومة ذلك التوافق بين أطراف الثلاثية الخارقة التي أوجدها لنا (راضي المترفي) وتتمثل بثلاثية التجانس بين (عنوان القصة) وبين (ثيمة القصة) وبين (الحدث الرئيسي) والتي صبت في صالح معايير الرؤية الفنية، والخصائص البنائية الابداعية للقاص، حيث رصد لنا عبر هذه المتقاربات الثلاثة المهمة، جملة من الواسعات الجمالية، سواء أكان ذلك على مستوى اللّغة، أو الأسلوب، أو المعمار الهندسي، أو التركيب، لذا نحن إزاء مجموعة من القراءات الجمالية التي سعت إلى سبر أغوار المضامين ( المترفية ) الصية لسحب ذاكرة المتلقي لتوصيلها لذلك النسق التحليلي، لتأويل هواجس القاص الداخلية، وضغوطاته الخارجة، لإماطة اللثام عن ذلك اللبس الحاصل بين شخصية (البطل والكاتب) وإبراز بعض من خصوصيات البطل في قصصه، فهو في ملامحه الباطنية يتعرض للعديد من التابوهات المشرعة في وجهه، رغم تمتعه بنزعات خارقة للإقدام على حلّ معضلاته بذاته، لأنه بطل ثوري من طراز نبيل يمثل ذاتية القاص، الذي رسم معالمه بعناية مرموقة، ومن ناحية أخرى نجده، بطلاً حالماً يمتلك كماً هائلاً من الأحلام المؤجلة، التي لم يحققها بعدُ، ليس لأنه عاجزاً، لكنه ما زال يرضخ تحت وطأة فواجع الوطن، وأحزان شعبه، وهو بذات الوقت يعيش داخل كنف قلم القاص المائز ( راضي المترفي ) النازف حبراً بلون الدمعة، وبلون دم الشهادة، لأنه متوافق مع المعطيات الإنسانية، وتماثل أزمنة الحرب، والحب في لواعجه التدوينية الراقية، ومعايير كتاباته القصصية الرائدة.
سعدي عبد الكريم / كاتب وناقد / العراق

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق