محمد جبر حسن قصة قصيرة
بكاء .... منذ طفولتي وأنا أرى أمي تبكي، قالت لي مرة ، إنها تبكي على أختها ، التي ماتت كمداً بيوم عرسها حين أرادوا تزويجها من أبن عمها الذي يكبرها بالعمر كثيراً ومتزوج قبلها مرتين ! ومرة قالت إنها تبكي على خالها الذي رحل عن الدنيا ولم يسترجع فالته من ظهر المستعمر الأنگليزي ، وأحياناً كثيرة كانت تبكي وبحرقة ولا تتوقف إلّا عندما ترى أبي عائداً من العمل ، كنت أظن إنها تبكي بلا سبب ! وكأن نهري دجلة والفرات ينبعان من عينيها ، سألتها ذات مرة.. أماه لمَ كل هذا الحزن ؟ وضعت يدها على رأسي وبيدها الأخرى ضمتني لصدرها وهي تقول .. أخاف عليكم من ما قادم الأيام ! لم أفهم ساعتها ما تعنيه لكني أتذكر وأنا في التاسعة من عمري حين أخذتني معها أول مرة لمقبرة وادي السلام لمرور أربعين يوماً على وفاة أمها ، كنت ماسكاً بعبائتها أقرأ لها شواهد القبور، وهي تبحث عن قبر أبيها الذي غادر بيدره قبل أن ينهي حصاده ، وقتها كانت تبكي عند كل إسم كنت أقرأه لها ! فسألتها لمَ تبكين يا أماه ؟ هل كل هؤلاء المتوفين أقربائك ؟ لم أسمع منها شيء ، فقط نظرت لي وكانت الدموع هي الإجابة ! ومرت الأيام والأعوام وكبرتٰ ولم تتوقف أمي عن البكاء ولم تنزع سوادها الذي اختط حبل الغسيل من لون هذا السواد الحالك ، وأزداد بكائها كلما تزداد النعوش الآتيه من هناك حيث القرابين تقدم للوطن ، كان لنا في كل موسم مهرجان دموع تشارك فيه النسوة وهن متشحات بالسواد ، أمي ومعها قريباتها وصاحباتها من نساء الحي .. أم حسين وأم ستار وأم سلام وأم حميد ، وحتى أم ضياء وكانت أصغر منهن سناً وفقدت إبنها الشاب شهيداً في الحركات العسكرية للمتمردين في شمال الوطن ، كن يجلسن على شكل حلقة ، يتبادلن الحزن السومري والبكاء الجنوبي والنعي الذي يفطر القلب ، حيث تنشد أحداهن بكلمات قريبة للشعر العامي وبصوت حزين ، وتكمله الأخريات بنشيج يحمل لوعة لم أعرف من أين يأتين بها ، كنت أبكي سراً لبكائهن الذي لم يتوقف لساعات طوال ، وفي يوم لا أنسى تفاصيله اختلطت به مشاعر الحزن وغلفت جدران بيتنا القديم بوشاح السواد ، بكت أمي أكثر من بقية الأيام وكأني أراها تبكي لأول مرة ، وذلك حين وقفت سيارة عسكرية أمام البيت وهي تحمل جثمان أخي بتابوت ملفوفاً بالعلم ذو النجمات الثلاث ! عرفت بعدها ما كانت أمي تخاف عليه وتبكي لأجله !
 |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق